منذ وقت ليس بالبعيد، خرج الناخبون البرازيليون الذين سئموا من الطبقة السياسية من مهاجعهم ليساعدوا في اختيار زعيم يمكنهم أن يعتبروه خاصاً بهم. والنتيجة تمثلت في وصول خايير بولسونارو «اليميني» إلى الحكم وتعميق ما يمكن اعتباره «حرباً ثقافية». وبعد أن سممت المعارك الأيديولوجية الخطاب العام وجعلت البرازيليين يعادون بعضهم البعض، وصلت هذه المعارك الآن إلى شاشات السينما. ففي وقت سابق من العام الجاري، احتدم الخلاف بين الحزبيين حول فيلم وثائقي صادر عن شركة نتفليكس بعنوان «حافة الديمقراطية» وهو سرد متحمس أو مغرض، بحسب موقفك الحزبي، بصوت المتكلم عن توجيه الاتهام لرئيسة حزب «العمال» السابقة «ديلما روسيف» مما أفسح المجال في نهاية المطاف إلى انتخاب «بولسونارو» وسيحتدم الخلاف مرة أخرى حول فيلم «ماريجيلا» عن السيرة الذاتية لجماعة مسلحة برازيلية قادت عصياناً مسلحاً ضد الديكتاتورية العسكرية. لكن ما يتصدر الخلاف المحتدم في هذا الموسم هو فيلم «باكوروا»، الذي يمثل «فانتازيا» جحيمية تقع فيه جماعة من سكان البلاد الأصليين تحت حصار غزاة أميركيين شماليين يجوبون الأرض ويحملون أسلحة ثقيلة.
وعُرض فيلم «باكوراو» في الآونة الأخيرة في دور العرض القومية بعد مهرجان افتتاحي وحصوله على جائزة لجنة التحكيم في مهرجان «كان» السينمائي. وربما كان من المتوقع من مخرجي الأفلام البارعين أن يساعدوا في عرض ما يتجاوز الخلافات الأيديولوجية التي أنهكت الأمة، ومن ثم يساعدون البرازيليين في تكوين تصور جديد عن مجتمع أفضل وأكثر تحضراً. لكن «باكوراو» ليس من هذا النوع. فالمخرجان «كليبر ميندونكا فيلو»، و«جوليانو درونيليس» لم يستهدفا تجاوز الخلافات بل التهييج. ويدور الفيلم في منطقة ريفية من الشمال الشرقي الفقير في البرازيل ويعرض ملحمة بلدة «باكوراو» المتخيلة التي تقاسي الشدائد والشظف لكنها تصمد أمامهما بالشجاعة والكبرياء مستعينة على ذلك بمواد مخدرة مصنوعة محلياً، ثم يفسد غزاة هذه الحياة الوادعة. والكارثة يبشر بها وصول عمدة «توني جونيور»، الذي يدخل القرية وسط موكب حملته الانتخابية. ويعد العمدة بأن يعيد توصيل مياه الشرب إلى القرية من خزان كان قد حظره أحد الشخصيات الكبيرة من قبل.
ولا شيء غريب في كل هذا في قرية برازيلية فقيرة في ظل حملة انتخابية. لكن اتضح أن عمدة البلدة يخدم قوة أكثر خبثا تتمثل في فرقة من الأجانب فاتحي البشرة الذين يقومون برحلة سفاري يتحول فيها سكان باكوراو إلى طرائد. وتتابع الأحداث نحو انتفاضة تتفوق فيها المسدسات بشكل كبير على بلدة باكوراو المسالمة. ولحسن الحظ كان لدى سكان البلدة سلاح سري يتمثل في زعيم عصابة محلي هارب يدعى لونجا وعصابته. ويحرص لونجا وعصابته أن يستعيد مجدهم كما كان يفعل رجال العصابات في بداية القرن الماضي الذين أصبحوا أبطالاً شعبيين بسرقتهم ضيعات الأغنياء وإعطاء الفقراء.
وتخلى أفراد العصابة عن الجرائم الحقيرة ليتحدوا مع السكان المحليين المقموعين ضد الأجانب الجشعين. إنها فكرة مجازية تتكرر كثيراً لكن المخرجيْن زينا هذا النوع من الفن بقوس قزح السياسة المعاصرة. وفي الفيلم، تتخذ القرية قراراتها بالإجماع. والمجتمع فيها أمومي تتمتع فيه نساء شديدات المراس بالحرية ويلعبن دوراً مهماً في الحماية.
وهذا الواقع يجتذب تعاطف الجمهور نحو الهمجية التي تحدث بعد ذلك. وأنكر ميندونكا فيلو ودورنيليس أي تعمد في تبني أيديولوجية معينة أو نقل رسالة سياسية بعينها. وأصبح «باكوراو» سادس أفضل فيلم برازيلي تحقيقاً لمبيعات التذاكر في سينمات البرازيل في أول أسبوع من عرضه. ولقي الفيلم صدى كبيراً بشكل خاص في الشمال الشرقي، وهي المنطقة التي تدور فيها الأحداث من قصة الفيلم المتخيلة والتي ترفض بولسونارو باعتباره غازياً من الجناح اليميني أو أسوأ من هذا ولهذا دلالة مهمة.
لكن الفيلم لم يعجب الجميع وانتشر السجال فيما يتجاوز الصفحات الفنية. ويرى ديميتري ماجنولي استاذ علم الاجتماع في جامعة ساو باولو أن الفيلم «شهادة على فناء الذكاء في اليسار البرازيلي». ربما يكون هذا الحكم مبالغاً فيه، لأن الفيلم يبدأ بفانتازيا شبيهة بأفلام الرسوم المتحركة لغزاة من الشماليين البيض يتزعمهم مايكل، بارد الدماء. والعبارات المسممة لعصابته من سيئي الأخلاق والقتلة وكارهي الأجانب ربما تثير قلق حتى أكثر الناخبين المحافظين تشدداً في الولايات المتحدة. وهناك الأبطال من السكان الأصليين الذين ردوا على النهابين بترسانة قديمة من أسلحة رجال العصابات.
إنه تصور فني غريب لأمة سئمت سياسة عبادة الشخصية والآن ترى أن المزيد من المسدسات تجعل الشوارع أكثر أماناً وتحتفي بالجماعات المسلحة الإجرامية وتغازل المارقين والمتطرفين كي يجعلوا من عدم التحضر أمراً عادياً.
*كاتب متخصص في شؤون أميركا اللاتينية.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»
وعُرض فيلم «باكوراو» في الآونة الأخيرة في دور العرض القومية بعد مهرجان افتتاحي وحصوله على جائزة لجنة التحكيم في مهرجان «كان» السينمائي. وربما كان من المتوقع من مخرجي الأفلام البارعين أن يساعدوا في عرض ما يتجاوز الخلافات الأيديولوجية التي أنهكت الأمة، ومن ثم يساعدون البرازيليين في تكوين تصور جديد عن مجتمع أفضل وأكثر تحضراً. لكن «باكوراو» ليس من هذا النوع. فالمخرجان «كليبر ميندونكا فيلو»، و«جوليانو درونيليس» لم يستهدفا تجاوز الخلافات بل التهييج. ويدور الفيلم في منطقة ريفية من الشمال الشرقي الفقير في البرازيل ويعرض ملحمة بلدة «باكوراو» المتخيلة التي تقاسي الشدائد والشظف لكنها تصمد أمامهما بالشجاعة والكبرياء مستعينة على ذلك بمواد مخدرة مصنوعة محلياً، ثم يفسد غزاة هذه الحياة الوادعة. والكارثة يبشر بها وصول عمدة «توني جونيور»، الذي يدخل القرية وسط موكب حملته الانتخابية. ويعد العمدة بأن يعيد توصيل مياه الشرب إلى القرية من خزان كان قد حظره أحد الشخصيات الكبيرة من قبل.
ولا شيء غريب في كل هذا في قرية برازيلية فقيرة في ظل حملة انتخابية. لكن اتضح أن عمدة البلدة يخدم قوة أكثر خبثا تتمثل في فرقة من الأجانب فاتحي البشرة الذين يقومون برحلة سفاري يتحول فيها سكان باكوراو إلى طرائد. وتتابع الأحداث نحو انتفاضة تتفوق فيها المسدسات بشكل كبير على بلدة باكوراو المسالمة. ولحسن الحظ كان لدى سكان البلدة سلاح سري يتمثل في زعيم عصابة محلي هارب يدعى لونجا وعصابته. ويحرص لونجا وعصابته أن يستعيد مجدهم كما كان يفعل رجال العصابات في بداية القرن الماضي الذين أصبحوا أبطالاً شعبيين بسرقتهم ضيعات الأغنياء وإعطاء الفقراء.
وتخلى أفراد العصابة عن الجرائم الحقيرة ليتحدوا مع السكان المحليين المقموعين ضد الأجانب الجشعين. إنها فكرة مجازية تتكرر كثيراً لكن المخرجيْن زينا هذا النوع من الفن بقوس قزح السياسة المعاصرة. وفي الفيلم، تتخذ القرية قراراتها بالإجماع. والمجتمع فيها أمومي تتمتع فيه نساء شديدات المراس بالحرية ويلعبن دوراً مهماً في الحماية.
وهذا الواقع يجتذب تعاطف الجمهور نحو الهمجية التي تحدث بعد ذلك. وأنكر ميندونكا فيلو ودورنيليس أي تعمد في تبني أيديولوجية معينة أو نقل رسالة سياسية بعينها. وأصبح «باكوراو» سادس أفضل فيلم برازيلي تحقيقاً لمبيعات التذاكر في سينمات البرازيل في أول أسبوع من عرضه. ولقي الفيلم صدى كبيراً بشكل خاص في الشمال الشرقي، وهي المنطقة التي تدور فيها الأحداث من قصة الفيلم المتخيلة والتي ترفض بولسونارو باعتباره غازياً من الجناح اليميني أو أسوأ من هذا ولهذا دلالة مهمة.
لكن الفيلم لم يعجب الجميع وانتشر السجال فيما يتجاوز الصفحات الفنية. ويرى ديميتري ماجنولي استاذ علم الاجتماع في جامعة ساو باولو أن الفيلم «شهادة على فناء الذكاء في اليسار البرازيلي». ربما يكون هذا الحكم مبالغاً فيه، لأن الفيلم يبدأ بفانتازيا شبيهة بأفلام الرسوم المتحركة لغزاة من الشماليين البيض يتزعمهم مايكل، بارد الدماء. والعبارات المسممة لعصابته من سيئي الأخلاق والقتلة وكارهي الأجانب ربما تثير قلق حتى أكثر الناخبين المحافظين تشدداً في الولايات المتحدة. وهناك الأبطال من السكان الأصليين الذين ردوا على النهابين بترسانة قديمة من أسلحة رجال العصابات.
إنه تصور فني غريب لأمة سئمت سياسة عبادة الشخصية والآن ترى أن المزيد من المسدسات تجعل الشوارع أكثر أماناً وتحتفي بالجماعات المسلحة الإجرامية وتغازل المارقين والمتطرفين كي يجعلوا من عدم التحضر أمراً عادياً.
*كاتب متخصص في شؤون أميركا اللاتينية.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»